عدد الرسائل : 77 العمر : 32 المهنة : الهواية : احترام قوانين المنتدى : MMS : تاريخ التسجيل : 01/12/2008
موضوع: :: وما هو على الغيب بضنين :: الأحد ديسمبر 14, 2008 5:53 pm
قال تعالى في حق القرآن الكريم:"..إنّه لقولُ رسولٍ كريم، ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين، مُطاع ثَمّ أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد رآه بالأفق المُبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطانٍ رجيم...". التكوير(19 – 25)
يذهب أكثر أهل التفسير إلى أنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو المقصود بقوله تعالى:" وما هو على الغيب بضنين": أي أنّ الرسول، عليه السلام، ليس ببخيل بما جاءه من الوحي، إذ الوحي غيب. ولكن استخدام (على) يُضعف هذا القول، لأننا نقول: بخيلٌ بالمال، ولا نقول: بخيلٌ على المال. وقد لاحظ بعض المفسرين هذا فقالوا: إنّ (ضنين) قُرئت أيضاً (ظنين) وعليه يصبح المعنى: ليس محمد بمُتَهم، فهو إذن أمين على ما جاءه من الغيب.
الذي نراه هنا أنّ الضمير (هو) يرجع إلى القرآن الكريم، وليس إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى:" وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم..."، ويؤيّد ذلك ما ورد في الآيات التي تسبق:" إنه لقول رسول كريم...". وعليه يكون المعنى: ليس القرآنُ على الغيب ببخيل. ولا يصحّ هنا أن نقول إنّ حروف الجر ينوب بعضها عن بعض فيكون المعنى: ليس القرآن بالغيب ببخيل، لأنّ القول إنّ (على) هنا بمعنى الباء يجعلنا نتساءل عن سرّ عدم استخدام الباء، في الوقت الذي يؤدي استخدام على إلى إشكال في الفهم ؟!
يمكن تقسيم الكون المخلوق إلى عالَمين؛ عالم غيب، وعالَم شهادة، فما جهله الإنسان فهو عالم الغيب، وما علمه فهو عالَم شهادة. ومعلوم أنّ اطّلاع الإنسان على عالم الغيب إمّا أن يكون عن طريق الحس، أو العقل، أو الخبر الصادق. والتطور العلمي للإنسان يعني اتساع مساحة عالم الشهادة على حساب مساحة عالم الغيب. وعندما نؤمن بأنّ الله تعالى هو مطلق العلم فإنّ ذلك يعني أنّه لا يوجد في حقه سبحانه غيب، بل كل الوجود عنده شهادة. وعليه فإنّ معنى أنّه تعالى عالم الغيب والشهادة: أنه سبحانه عالم لما يشهده الخلق، ولما يغيب عنهم.
وُصِف القرآن الكريم، وكذلك كل الرّسالات الربّانية، بأنّه نور. والنور كلّ ما يُوصلك إلى حقائق الأشياء، وينقل هذه الأشياء من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. فالقرآن نور لا يبخل على عَالَم الغيب أن يُجلّيه فيجعله عالم شهادة، فهو يحتوي على العلم الكافي لكي يطل الإنسان على الغيوب، فالغيب محتاج إلى أن تُلقى عليه الأضواء، ليخرج من عالم الجهل إلى عالم العلم. وعليه نُرجّح أن يكون المقصود بقوله تعالى: "وما هو على الغيب بضنين"، أنّ القرآن الكريم، بما فيه من علم ومعرفة، لا يَضِنُّ على عالم الغيب أن يُجلّيه ويجعله عالم شهادة.
عندما ينعكس نور القرآن الكريم في عالم الاجتماع، مثلاً، تتجلى حقائق هذا العالم... وهكذا في كل عالم. على ضوء ذلك يمكن أن نفهم، بشكل أفضل، بعض دلالات قوله تعالى في حق القرآن الكريم:" تِبياناً لكلِّ شيء"؛ فهو المبين لكل شيء، وما من غيب إلا والقرآن قابل لتبيينه. وعليه ليس بالضرورة أن توجد الأشياء كلّها في القرآن الكريم، ولكنّ نور القرآن الكريم يُجلّي كل الأشياء، أي كلّ الغيوب، فيحيلها إلى شهادة. من هنا ندرك أنّ استخدام حرف (على) في قوله تعالى: "وما هو على الغيبِ بضنين" لا يمكن الاستعاضة عنه بحرف الباء، لأنّ الآية لو كانت: (وما هو بالغيب بضنين)، لكان المعنى أنّ الغيوب فيه ثم هي تخرج منه، فتتجلّى في عالم الواقع. وهذا غير مفهوم، بل إنّ الغيوب هي عالم آخر يقوم نور القرآن الكريم بتبيينها وتجليتها.
وخلاصة الأمر أنه بإمكاننا، مستنيرين بالقرآن الكريم، أن نجعل عالم الغيب عالم شهادة، سواء أكان الأمر يتعلق بالماضي، أو بالحاضر، أو بالمستقبل. وسواء أتعلق ذلك بالاجتماع، أو الاقتصاد، أو النفس... وهذا يعني أنّ مِن كَرم القرآن الكريم أنّه لا يَضنُّ على الغيب بنوره المُبين:" وما هو على الغيب بضنين